التخطي إلى المحتوى الرئيسي

من الكراهية .. إلى الكراهية


(قراءة في واقع الكراهية في المجتمع الكويتي تطبيقًا على دراسة د. نادر كاظم في كتابه "لماذا نكره")


صدر منذ فترة قريبة لدكتور نادر كاظم كتاب بعنوان " لماذا نكره؟، أو كراهيات منفلتة مرة أخرى " عن دار سؤال. ولا يخفى أن مشكلة الكراهية التي يتطرق لها الكتاب مشكلة عسيرة ومعقدة تمتد جذورها في العديد من العلوم والتخصصات كعلم التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وعلم النفس والسياسة وغيرها. إلا أن ورود لفظة " مرة أخرى " في العنوان الفرعي للكتاب، لفت انتباهي إلى أهمية البعد التاريخي للمشكلة. يقول الفيلسوف الألماني دلتاي: " ليس من خلال الاستبطان بل من خلال التاريخ وحده يتأتى لنا أن نفهم أنفسنا " إن مشكلة فهم الإنسان هي مشكلة استعادة ذلك الوعي بـ " تاريخية " وجودنا الخاص والذي ضاع بالمقولات السكونية للعلم. إننا نخبر الحياة لا في المقولات السببية بل في لحظات فريدة معقدة من " المعنى ". وهذه الوحدات من المعنى تتطلب سياقًا يضم الماضي ويضم أفق التوقعات المستقبلية؛ إنها زمانية في صميمها ومتناهية، ولا يتم فهمها إلا في ضوء هذه الأبعاد، أي لا يتم فهمها إلا تاريخيًا. وتبدو سطوة التاريخ على هذه القضية جلية حتى من ناحية تناولها في الكتاب إذ يبدأ الكتاب بالبحث عن جذورها في الماضي ثم امتداداتها إلى حياتنا المعاصرة وينتهي بمحاولة البحث عن حلول لتجاوزها في المستقبل فختم الكتاب بهذه الجملة: " .. وعندئذ يمكننا أن نحلم بعالم بلا كراهية ".
لست في موقع يجيز لي تقييم الكتاب ولا كاتبه، فمن يقيّم عالمًا يجب أن يكون أعلم منه. لكن على المستوى الشخصي يكون الكتاب ناجحًا بالنسبة لي إذا استطاع أن يكشف عن زوايا جديدة وغائبة في " فهم " القضية التي يتطرق لها، وأن يخلق فيك تلك الحالة التأملية التي تجعلك في البداية تخوض حوارًا مع الكتاب وما إن تصل إلى النتائج حتى تبدأ بتفكيك ومسائلة كل أفكارك القديمة وإعادة النظر فيها في ضوء النتائج الجديدة التي توصلت إليها. وهذا بالفعل ما تحقق مع كتاب " لماذا نكره؟ " مثلما تحقق من قبل مع كتب د. نادر كاظم السابقة.  
طوال قراءتي للكتاب كانت صورة المجتمع الكويتي ماثلة أمام عيني، فما إن ينتهي الجدل المنطقي والنظري مع الأفكار، حتى تبدأ المرحلة الثانية من التفكير وهي مطابقة الفكرة مع الواقع، إنزال النتائج من سماء العقل إلى أرض الحدث. وهذه الحالة هي التي جعلتني أنتبه إلى مسألة حساسة نوعًا ما.؛رغم كل الدماء التي سالت وستسيل ورغم كل الخراب الذي حل بالعالم بسبب الكراهية والذي سيحل في المستقبل، غير أن جيلنا الحالي هو أكثر جيل معني بهذه المشكلة التي باتت تشكّل نمط حياتنا وتخط طرق سيرها وتحدد أساليب تعاملنا مع أنفسنا وتعاطينا ومع الآخر، بل والأهم من ذلك.. تهدد حياتنا.



ما الذي يميز جيلنا؟

أعتقد أن جيلنا هو جيل " المرحلة الإنتقالية " بين حالتين أو مرحلتين تاريخيتين تعتبران حسب رؤية الكتاب هما الحالتان الأساسيتان في تشكيل خطاب الكراهية. الكراهية ليست أمراً مستحدثًا ولا جديدًا. هي موجودة في الماضي كما هي موجودة الآن بل كانت أجرأ وأشد والأدلة التاريخية على هذا الادعاء كثيرة وواضحة (ص37). لكن وجه الاختلاف بين الكراهية القديمة والحديثة هو عملية بلوغها ووصولها إلى الطرف المستهدف من هذه الكراهية. ويرجع دكتور نادر هذا الاختلاف إلى ثنائية مهمة تناولها في الفصول الأربعة الأولى من الكتاب وهي ثنائية " العزلة والاتصال ". باختصار: قديمًا وبسبب العزلة – وهذه العزلة تخضع لعدة عوامل اجتماعية وجغرافية وتكنولوجية - لم يكن لهذه الكراهيات أن تبلغ الآخر. أما اليوم وبسبب عولمة الاتصالات تبدلت هذه الحالة تمامًا فوجدت الكراهيات القنوات التي تسمح لها بأن تستهدف الآخر وتبلغه بسرعة صادمة ومؤثرة رغم صعود المجال العام والقوانين التشريعية وجهودها لمقاومة ومنع هذه الكراهيات من الانفلات.
عودة إلى جيلنا. أستطيع أن أدعي وبناء على فكرة الكتاب سالفة الذكر، أن جيلنا الحالي سيكون أكثر من عانى وسيعاني بتاريخ البشرية من مشكلة الكراهية، وذلك بسبب وقوعه زمنيًا في المرحلة الانتقالية بين الحالتين الأساسيتين المؤثرتين على هذه الفكرة. فهذا الجيل قد شهد نهاية زمن العزلة وموته وبداية زمن الاتصال وانفجاره. وكما هو الحال في أي مرحلة انتقالية ينزع العالم فيها جلده ليرتدي جلدًا آخرًا، يكون أكثر من يتضرر من لعنات وويلات هذا التغيير هم أبناء تلك المرحلة. فالجيل الذي سبقنا ولدت كراهياتهم في عزلتها وعاشت في عزلتها وماتت في عزلتها. والجيل الذي سيعقبنا ستولد كراهياتهم وتعيش وتموت في انفتاحها. أما الجيل الحالي فقد نشأ على نمط معين من الكراهية وتأسس عليه واطمأن لأدواته، لكنه وجد نفسه فجأة أمام تغيير صادم جعله مضطرًا لمراجعة كل هذه الأدوات وكبتها وابتكار " تكتيكات " جديدة ومصطنعة لضخها مرة أخرى.
في المجتمع الكويتي مثلًا وحتى تسعينات القرن الماضي كنا نعايش حالة من العزلة إما جزئية أو شبه تامة بل هناك فئات من المجتمع عايشت عزلة تامة. فالتركيبة السكانية في الكويت كانت موزعة فئويًا على المناطق السكانية؛ هناك مناطق خاصة للبدو وأبناء القبائل، ومناطق للحضر السنة ومناطق ذات أغلبية شيعية ومناطق أخرى مختلطة. فبينما نجد في منطقة صغيرة مثل المنصورية ما يزيد على العشرين حسينية ومجلس عزاء، تخلو مناطق الحضر السنة مثل الفيحاء والشويخ السكنية من أي حسينية. أذكر قبل عشر سنوات في اجتماع لأعضاء قائمتنا الانتخابية في الجامعة، صرح اثنان من الأصدقاء السنة أنهم حتى دخولهم المرحلة الجامعية لم يصاحبوا أي شخص شيعي بل لم يلتقوا بواحد من قبل، فعقّب أحد أبناء القبائل أنه ليس فقط لم يتعرف على أي حضري أو شيعي قبل دخوله الجامعة، بل لم يغادر محافظة الجهراء في حياته قط. إن هذا النوع من التجمعات والحوارات في المرحلة الجامعية يعد حالة إيجابية وانتقالًا مهمًا من العزلة إلى الإحتكاك بالآخر ومعايشته. لكن للأسف لم تكن هذه الحالة عامة؛ فالذي سمح بتشكيل هذا المجتمع المختلط المتسامح هو مبادئ القائمة الانتخابية التي كنا نعمل فيها، إذا أنها قائمة طلابية لا تتبنى أي موقف سياسي أو فكر طائفي. بينما يوجد في المقابل قوائم ذات توجهات طائفية مذهبية ( وأعني بالطائفية هنا أنها تتبنى فكر طائفة معينة ولا أقصد أنها تقوم بممارسات طائفية ) تحافظ على حالة العزلة – المهددة – في المرحلة الجامعية. هذا بالنسبة للحالة الجغرافية للعزلة التي بدأت بالزوال مع توزيع المناطق السكنية الجديدة، فوجد أبناء كل فئة أنفسهم مضطرين لترك مناطق تمركز فئتهم وأقاربهم والنزوح إلى مناطق جديدة تضم خليطًا اجتماعيا جديدًا كمناطق جنوب السرة وغرب الجليب، أو اقتحام مناطق سكانية قديمة وتهديد عزلة أصحابها كما حصل مع منطقة سعد العبد الله (جنوب الجهراء) التي انتقل إليها حديثًا عوائل من الحضر السنة والشيعة وزاحموا أبناء القبائل الشمالية في عزلتهم. وحصل نفس الشيء مع مناطق القبائل الجنوبية كـ (هدية وفهد الأحمد والمنقف). وهذا الانتقال لم يكن ذا تأثير كبير على جيل الآباء كونهم حافظوا على مواقع عملهم القديمة ودواوينهم الاجتماعية وتجمعاتهم الأسرية في مناطقهم الأصلية، فصار سكنهم الجديد مجرد فندق ينامون فيه ويخرجون كل صباح لممارسة حياتهم في ( مناطق الأمان ) التي يرتاحون بها. لكن تأثير هذا الانتقال انسحب بطريقة صادمة على جيل الأبناء الذين اجتثوا من عزلتهم ووجدوا أنفسهم مباشرة في مناطق صدام مع الفئات الأخرى في مدارسهم الجديدة. إن المدارس ساحة صراع خطرة لأفكار الكراهية كون المتواجهين فيها أطفالًا لا يمتلكون القدرة والنباهة الكافيتين لكبح جماح أفكارهم من الانفلات والتعبير بصراحة ونقل ما يسمعونه في منازلهم من أقربائهم الكبار من أفكار كراهية تعبر عن نفسها في المنزل في عزلة تامة وآمنة. فإن كانت المدرسة ذات تركيبة فئوية واحدة فلا خوف من تداول هذا الخطاب، أما في حالة المدارس المتنوعة فإن جملة واحدة كافية لإشعال نار معركة دامية تصل إلى حد سفك الدماء. في الواقع إن ما سمح لي بطرح هذا التصور والتحليل هو تجربتي الشخصية النادرة في الدراسة؛ ففي المرحلة المتوسطة درست في مدرسة " قتيبة " الكائنة في منطقة الدعية وهي المدرسة المخصصة للبنين من أبناء مناطق ( الدعية والدسمة وبنيد القار) وهي مناطق ذات أغلبية شيعية، فكان عدد الطلاب السنة في المدرسة لا يتجاوز الـ 10%. لذلك طوال هذه المرحلة لم يحصل أي نزاع ولم تنطلق أية كراهية بين الشيعة والسنة إلا نادرًا، فاضطر الطلاب الشيعة إلى خلق صراع جديد بين ( الشيعة العرب والشيعة العجم ) لكنه لم يكن أبدًا بحدة الصراع الشيعي-السني ولم يتعد قط مستوى السخرية والتندر. وفي حالات طريفة كان ينشأ صراعًا في قضايا شيعية فقهية مثل قضية التطبير وولاية الفقيه وغيرها. لكن في المرحلة الثانوية عشت تجربة مختلفة تمامًا، حيث قررت دراسة المرحلة الثانوية وفق نظام التعليم العام في فترة كان نظام المقررات هو السائد، فلم يكن في محافظة العاصمة غير مدرسة واحدة تدرس هذا النظام وهي مدرسة " أحمد العدواني " في منطقة العديلية وهي منطقة تكاد تخلو من الشيعة، فلم تكن نسبة الشيعة في المدرسة تتجاوز الـ 1% ولا أبالغ إن قلت أنني كنت أعرفهم جميعهم. هذه التجربة كانت مختلفة تمامًا بالنسبة لي، حيث شهدت ولأول مرة في حياتي " وصول خطاب الكراهية للطرف المستهدف فيه "، وتعرفت أخيرًا إلى ذلك " العدو " الذي كنا نحذّر منه في عزلتنا واستقبلت التهم التي هيئت لسماعها: " عيال المتعة، معمموكم يبصقون في الفيمتو، معمموكم يضاجعون أمهاتكم، تمارسون الجنس في الحسينيات عند إطفاء الإضاءة بعد مجالس اللطم، تلعنون الصحابة وتقذفون أمهات المؤمنين .. إلخ ". ولم أستطع أن أرتاح من هذا الهجوم اليومي إلى حين صنعت بخباثة صراعًا آخرًا بين السنة السلف والإخوان ووجهت الكراهية في اتجاه بعيد عني.



هنا يأتي سؤال مهم؛ هل هذا يعني أن الكراهية كانت علاقة من طرف واحد موجهة من السنة ضد الشيعة؟ حيث يتضح من تجربتي التي ذكرتها أن الشيعة حتى في الوضع الذي كانوا فيه أغلبية لم يمارسوا تنمرهم على السنة كما حصل في الحالة المعاكسة.

في الحقيقة إن الكل يعلم أن هذا الإدعاء خال من الصحة تمامًا، فللشيعة خطاب كراهية موجه للسنة لا يختلف ولا يقل عن خطاب الكراهية السني الموجه للشيعة، إنما موضع الاختلاف هو التزام الشيعة بمبدأ " التقية " في حالةٍ لم يكن السني يحتاج إليها. وهذا المبدأ وإن كان في ظاهره حكمًا فقهيًا، إلا أنه في الواقع مبدأ خاضع لجدلية " القوة والضعف " ( الفصل الخامس من الكتاب ). ويمكن اختصار هذه الجدلية في فكرة طرحها دكتور عبد الله النفسي مرة في تويتر ومرة في مقابلة تلفزيونية قال فيها: " السنة هم ( الأمة ) والشيعة هم ( الطائفة )". هذه الفكرة ليست جديدة ولم يبتكرها الدكتور النفيسي من العدم، بل هي فكرة مترسبة في الثقافة الجمعية لأبناء المنطقة من المذهبين ويمكن قياس تحركاتهم الطائفية كلها انطلاقًا من هذه الفكرة حيث يعلم كلا الطرفين أن ما تحمله هذه الفكرة من تقسيم على أساس القوة والضعف صحيح تمامًا. ومن هنا نستطيع أن نفهم لماذا كان الشيعي يلتزم الصمت حتى عندما يواجه هذا الخطاب بصفة رسمية في المناهج الدراسية وهو يوصف بالمشرك والكافر.
إن زوال العزلة المكانية بقدر ما هو مخيف إذ يحتمل إمكانية تصادم الكراهيات وتلاقيها، غير أنه يحمل وجه آخرًا حسنًا؛ فبزوال العزلة المكانية ستزول العزلة التواصلية وستنشأ حالة من الحوار بين الأطراف المختلفة قد تتقارب فيها وجهات النظر أو على الأقل تخلق نوعًا من الاحترام الشخصي القادر على زعزعة الكراهيات القائمة على مشاكل الهوية.
لكن هل فعلًا زوال العزلة هو الذي حد من انفلات خطاب الكراهية أم أن هناك عامل آخر تدخل في هذه العملية؟
في الفصل الثالث من الكتاب يطرح دكتور نادر فكرة " صعود المجال العام " الذي صار بدوره أداة انضباط بجانب قوة القانون والمؤسسات، حيث جاء في الكتاب: " ولم تكن الدولة وأجهزتها هي المصدر الوحيد لهذه الانضباطات، بل ثمة طارئ جديد هو المجال العام الذي تحصل على سلطة لا تضاهي سلطة الدولة، إلا أنها سلطة لا يستهان بها، وبفضل هذه السلطة المكتسبة حديثًا صار المجال العام قادرًا على تعميم أعرافه وضوابطه وقواعده الخاصة بإنتاج الخطاب وتوزيعه واستهلاكه ". مع صعود المجال العام تغيرت موازين القوة والضعف، وأدرك كل طرف أن الفجوة القديمة بينه وبين الآخر لم تعد واسعة كما كانت.
سنة 2005 تظاهر مئات الأشخاص من أبناء إحدى القبائل  وأوشكوا على الاعتداء على أحد الفنانين بعدما سخر من قبيلتهم باستشهاده بأحد الأمثال الشعبية القديمة التي تمس قبيلتهم. ومن المهم أن نركز على فكرة " مثل شعبي قديم " فالخطاب الذي تداوله ذلك الفنان ليس جديدًا ولا من ابتكاره، لكنه لم يعِ أن بصعود المجال العام مثل هذا الخطاب لم يعد مقبولًا ولن يمر مرور الكرام كما يحصل في السابق. وفي حالة أشد من السابقة في سنة 2009 علق مركز وذكر لافتة مطلة على الطريق السريع كتب عليها " عاشوراء يوم فرح وسرور " وصادف تعليقها قبيل عاشوراء بأيام قليلة مما استفز الطائفة الشيعية التي اعتبرت أن هذه العبارة هي استهزاء صريح بشعائرها ومشاعرها، فحشد آلاف الأشخاص مظاهرة في منطقة الرميثية غضبًا واحتجاجًا.
هاتان اللحظتان كما أظن هما لحظتان مفصليتان في تاريخ الكراهية في المجتمع الكويتي؛ بعد ما جرى سنة 2005 شرعت قوانين تمنع تداول النكت التي تمس الأعراق والعوائل والقبائل بعدما كانت هذه النكت المصدر الأول للفكاهة يوميًا في الكويت، والأغرب من ذلك أنها قبل هذه الحادثة لم تكن تسبب الإزعاج والتحسس الذي صارت تسببه بعدها. ونفس الشيء ينطبق على حادثة مركز وذكر، لم يعد الصمت خيارًا، ووسائل التصعيد على المستوى العام صارت متاحة وسلاحًا تردع به أي كراهية. وعلاوة على ذلك شرعت قوانين تجريم الكراهية وأصبح من حق أي شخص أن يسلك المسلك القانوني والقضائي لرد حقه، فقبل أيام قليلة صدر حكم قضائي بحبس صاحب مركز وذكر خمس سنوات بتهم إثارة الفتنة وازدراء الأديان.


إذن هل نستبشر بزوال الكراهية من المجتمع؟
للأسف، لا .. كل ما حصل أن هذه الكراهية " كبتت " وبدأت تبحث عن تحايلات وتكتيكات وطرق خفية تسلكها لتعبر عن نفسها وتتحرر من كبتها ( الفصل الرابع). وتصادفت هذه المرحلة مع بزوغ فجر مواقع التواصل الاجتماعي؛ بداية بالفيس بوك وتبعه انستغرام ثم التويتر. وهنا وجد الناس البيئة المثالية لإطلاق كراهياتهم مرة أخرى والتعبير عنها بكل جرأة وصراحة متحايلين على القانون بالتخفي والاختباء وراء الحسابات الوهمية معلنين عن ولادة عصر جديد للكراهية.




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

كيف نبدع أفكارًا مستحيلة في أدب الطفل؟

  يسأل الكثير عن آليات كتابة أدب الطفل، والسؤال الأهم دائمًا: ما هي الأفكار المناسبة لنكتب عنها قصصًا وننشرها؟ الموضوع في غاية السهولة؛ إذا كان لديك أطفال في المنزل، أبناؤك أو أبناء أحد أقربائك، لاحظ تصرفاتهم باستمرار، ركز على سلوكياتهم السلبية؛ لا يغسل أسنانه، لا يطيع والديه، يفتعل الفتنة مع بقية الأطفال.. إلخ. فكر بعد ذلك في كيفية كتابة قصة لمعالجة هذا السلوك. اجمع هذه الأفكار كلها..   ولا تكتب أي شيء منها. دائمًا ما بدا لي أن النص بمجرد انزلاقه إلى الحالة التوجيهية للقارئ، يفقد كامل أدبيته. وهذا لا يعني بأي شكل من الأشكال أنني أطالب بتفريغ الأدب من الرسائل والقيم الإنسانية، لكنه لا يعني أيضًا أننا من أجل صناعة أدب رسالي هادف نحول النصوص إلى نصوص وعظية.  لا أذكر أين قرأت مرة أنه "ليس من وظيفة الأدب تقديم الإجابات، إنما فتح أبواب الأسئلة والتأملات". وهذا يصدق أيضًا على أدب الطفل، ومن المتوقع أن يكون الكاتب مدركًا لهذا المبدأ الأساسي الذي يشكل روح الأدب. إذن أين المشكلة؟ لماذا ينحو العديد من كُتاب أدب الطفل لأسلوب يسعى لفرض فكرة، أو تقويم سلوك من خلال بناء نصوص مغلقة تتجه نها

إن صحّت تسميته وجودًا

  البحر والحزن، لقد تم استهلاك هذه العلاقة بالأدب حتى صارت كليشيها، قال إسماعيل لنفسه وسرعان ما أجابته: لكن الكليشيه لم يصبح كليشيهًا إلا لتشبع الواقع منه، إنه حقيقي وشعري أكثر من كل الاستعارات التي نحاول أن نستحدثها. رمى بصخرة ملساء على الماء، قفزت قفزة واحدة وغرقت في الثانية، تلاشت في السواد، سواد امتزاج الليل والحزن في الماء. حتى هذا الفعل يعتبر كليشيهًا، قال لنفسه مرة أخرى. تريثت نفسه هذه المرة قليلًا حتى وجدت التبرير المناسب، ثم ردت: الناس تأخذ الأمور على ظاهرها ولا تفكر ولو قليلًا في ما وراء هذا الظاهر، هل من الصدفة أن يتفق البشر في كافة أرجاء الأرض على هذا السلوك ويمارسوه كأي فعل غريزي؟ أن تقذف صخرة في البحر حين تحزن كأن تشرب الماء حين تعطش. أظن الموضوع يحمل عمقًا وجوديًا؛ إنها محاولة الإنسان لإعادة خلق الوحدة الأولى للكون، يقذف اليابسة على الماء، يلم شتات كل هذا التبعثر. كفى إنك تفلسف كل شيء، قالت له نفسه. “إنك تفلسف كل شيء” إنها التهمة نفسها التي اتهمه بها صديقه محمود في لقائهما الأخير والذي كان خاتمة صداقة استمرت أربعة عشر عامًا. ها هي التهمة ترسبت في وجدانه وتعيد بصق نفسها ف