* هذه الورقة قدمتها في مهرجان المربد الشعري في العراق سنة ٢٠١٩، ونشرت بعد ذلك في كتاب " في حضرة المنسي" صدر عن دار كتارا للنشر، وهو كتاب لمجموعة مؤلفين يضم مجموعة من المقالات في أدب المرحوم إسماعيل فهد إسماعيل.
جدلية الهامش.. بين التمثيل السردي والواقع الاجتماعي
قراءة تطبيقية في رواية السبيليات[1]
يبدو أن شيوع استخدام مصطلح ما لا يعني بالضرورة وضوح دلالته، وهذا الأمر قد يصدق أكثر على المصطلحات ذات الطابع العلمي أو الفلسفي أو الأكاديمي. ربما لا يختلف إثنان على دلالة لفظ "نخلة" أو ربما يختلفان على دلالة لفظ "صنبور" هل نشير به إلى ذلك الجزء المخصص للاستحمام أم لغسيل اليد، لكن من الممكن بسهولة أن يتفقان بعد أن يوضح المتحدث مقصده. لكن ماذا عن مصطلحات مثل: مثقف، إبداع، فن؟ ومن المفارقة اننا قد نستخدم في حياتنا اليومية هذه الألفاظ أكثر مما نذكر النخلة. ربما سقراط كان أول من انتبه لهذه المعضلة حين كان يجادل محاوريه في معاني ألفاظ مثل " الفضيلة أو العدالة " ألفاظ لا ينفكون يذكرونها في أحاديثهم بثقة من يتحدث عن النخلة ويشير إليها وهي أمامه. فيسألهم سقراط عن معانيها وتعريفها وحدوها، ودائما ما تنتهي المحاورة باكتشاف المتحدث جهله.
مصطلح " الهامش" واحد من هذه المصطلحات الإشكالية التي يكثر استخدامها. أول ما انتبهت على هذه المسألة في اللقاء الأخير للمرحوم اسماعيل فهد اسماعيل والذي أقيم في مركز جابر الأحمد الثقافي حين سأله أحد الحضور عن تركيز روايته السبيليات على المهمشين، فأجاب: " أرى أن الأدب الإنساني، الأدب الواقعي، الأدب الملتزم، ساحته التي يستطيع أن يلعب فيها بشكل أكبر هي المهمشين في الدرجة الأولى. لأنهم هم من يقع عليهم الظلم والاضطهاد والنسيان وكافة أشكال الانسحاق، وبالتالي هم الموضوع المتاح والأهم."[2]ومن ثم أعقب أسماعيل وقال: "حتى الحمار في الرواية مهمش". وحينها استثارتني صعوبة هذا المصطلح وهلامية حدوده رغم أهميته وانتشاره،
فبدأت أتساءل: من هم المهمشون؟ أو بالأحرى ما معنى المهمش؟ ما هو الهامش وما هي حدوده؟ لأن ما هو حاصل في الحقيقة أن المفهوم أخذ اتساعًا دلاليًا من خلال التداول العام له حتى صار من الشائك تحديد من هي الفئة المهمشة فعلًا وما هو التهميش الواقع عليها، ولن يكون من المستغرب أن نقرأ الفترة القادمة مقالًا يصف الحكام ورؤساء الدول بالمهمشين وبالتالي ستكون الكرة الأرضية كلها كوكبًا مهمشًا مما يفقد اللفظ قيمته. ولا بد من إجابة هذه التساؤلات من أجل تطبيق المفهوم على الرواية.
عند تتبع لفظ "المهمش" لغويًا في البحث تاريخيًا عن الأصل المعجمي للكلمة في جذر همش، وجدت أن المعنى القديم لهذا اللفظ غير مرتبط نهائيًا مع استخدامه الحالي. فقد جاء في لسان العرب: الهَمْشةُ: الكلامُ والحركةُ، هَمَشَ وهَمِشَ القومُ فهم يَهْمَشُون ويَهْمِشُون وتَهامَشُوا.وامرأَة هَمَشى الحديثِ، بالتحريك: تُكْثِرُ الكلامَ وتُجَلَّبُ.والهَمِشُ السريعُ العملُ بأَصابِعه.
وهَمَشَ الجرادُ: تحرَّك ليَثُور.والهَمْشُ العَضُّ، وقيل: هو سُرْعَة الأَكلِ.[3]
وهَمَشَ الجرادُ: تحرَّك ليَثُور.والهَمْشُ العَضُّ، وقيل: هو سُرْعَة الأَكلِ.[3]
وأما في الصحاح فقد جاء:يقال للناس إذا كثروا بمكانٍ فأقبلوا وأدبروا واختلطوا: رأيتهم يَهْتَمِشونَ، ولهم هَمْشَةٌ.وكذلك الجراد إذا كان في وعاءٍ فعَلا بعضُه في بعض: له هَمْشَةٌ في الوعاء. قال أبو الحسن العدويّ: اهْتَمَشَتِ الدابَّة، إذا دبَّتْ دبيباً.وامرأةٌ هَمَشى الحديثِ، بالتحريك، وهي التي تُكثر الكلامَ والجلَبة.[4]
وكذلك الأمر في كافة المعاجم القديمة في اللغة العربية إذ تدور دلالة اللفظ في هذه الدائرة ولا يوجد أي ذكر أو إشارة إلى استخدام لفظ الهامش استخدامه الحالي بما يدل على الإزاحة أو الإقصاء أو حتى بوظيفته المتعلقة بالكتب، باستثناء إشارة واحدة جاءت في القاموس المحيط في باب همش حيث قال: "الهامش: حاشية الكتاب"وذكر بجانبها أنها لفظ "مولد"، والمولد في اللغة حسب تعريف دكتور محمد حسن جبل: "هو ما ابتكر من الألفاظ العربية بعد عصور الاحتجاج، إما بلفظه (صيغته ومعناه)، أو بصيغته فقط، أو بمعناه فقط. أو كان عبارة أو استعمالا كذلك".[5]
إذا في مرحلة متأخرة دخل لفظ "الهامش" على اللغة العربية بمعنى حاشية الكتاب وهو معنى لا علاقة له في أصل الكلمة القديم في اللغة. وهذا الاستخدام المتأخر أمر طبيعي بالنظر إلى أن الكتابة عمومًا دخلت متأخرة إلى اللغة العربية. وبالبحث في أشعار العرب ونصوصهم القديمة لم أجد ولا شاهدًا واحدًا ولا حتى ذكر لكلمة الهامش. وظلت الكلمة زمنًا طويلًا لا تستخدم إلا بالمعنى المباشر لها ولا ترد إلا في سياق الحديث عن كتاب ما تعليقًا على ما كتبه المؤلف في حاشيته. وفي مرحلة متأخرة جدًا بدأ استخدام الكلمة مجازيًا في النصوص مثل: على هامش الحرب، على هامش الحياة، هامش الليل وهكذا. مع هذه المرحلة انزاح استخدام اللفظ من موقعه المجازي وثبتت دلالته لغويًا في اللسان بدليل اشتقاق تصريفاته الأخرى بحيث صار له فعلًا واسم فاعل واسم مفعول فيقال: همش يهمش تهميشًا وهو مهمش والمهمشون في المجتمع.. إلخ. حتى أن الكلمة أضيفت في هذه الدلالة في المعاجم الحديثة فجاء في المعجم الوسيط المكتوب سنة 1960: "وفلانٌ يعيش على الهامش: لم يدخل في زحمة الناس." وقد ذكر بجانبها أنها كلمة محدثة.[6] وفي معجم الرائد المكتوب سنة 1969: "هامش الشيء: جانبه، عرضه .وهو يعيش على هامش المجتمع."[7]
يتضخ من المقدمة السابقة أن البحث عن الأصل اللغوي وجذوره التاريخية لم يقدم لنا المعونة الكافية لتعريف هذا المفهوم. فكل ما عرفناه عن المهمش أنه من يعيش على جانب المجتمع وأن هذا المعنى هو معنى استعاري في أصله مأخوذ من علاقة الهامش بالمتن. وعلاقة الهامش بالمتن هي علاقة مكانية مادية بينما المجتمع ليس شيئًا ماديًا حتى نستطيع تحديد جوانبه وأطرافه بناء على مقاربة المتن والحاشية.
حتى لو استبدلنا اللفظ بما يقاربه في المعنى أي احضرنا ما يصطلح عليه بمرادفاته وقلنا أنالتهميش هو عزل وإقصاء وإبعاد للآخر. لكننا سنظل ندور في نفس الدائرة الأولى حتى وإن وسعنا البحث خارج المصطلح وفرّعنا من ألفاظه سيظل السؤال كما هو مع الاستبدال: من هو المقصي أو المستبعد أو المعزول أي المهمش؟ وعن ماذا تم إقصاءه وعزله وتهميشه؟ يقول دكتور عبد الواحد المكني: " مصطلح التهميش مستعمل بكثرة، ولا سيما في الدراسات السوسيولوجية، وحداثة الاستعمال في القواميس واللغات لا علاقة لها بقدم الظاهرة تاريخيًا؛ فالمصادر العربية تتحدث عن "السوقة والأغفال والدهماء والرعاع والسفهاء والمنبوذين والبؤساء والأوباش"، وكلها نعوت للطبقات الاجتماعية الدنيا التي تتموقع في هامش تنظيمات المجتمع وتكون دومًا عرضة للإقصاء والتغييب. لذلك فإن مصطلح الإقصاء أو التغييب مرتبط أيما ارتباط بظاهرة التهميش، بل إنه نتاج مباشر لها في أغلب الأحيان."[8]إذا هذا الاقتباس يؤكد ما ذهبنا إليه أعلاه ويضطرنا إلى إخراج البحث من اللغة إلى العلوم الأخرى المتخصصة في هذه المسألة كالتاريخ وعلم الاجتماع. ولا ريب أننا حين نتحدث عن مهمش في المجتمع فهذا يحيلنا إلى فكرة تقسيم المجتمع إلى طبقات وهذا بدوره سيقذف بنا إلى معترك النظريات الاجتماعية الباحثة في هذا الشأن.
يتحدثعالم الاجتماع انتوني غدنز عن الإقصاء الاجتماعي قائلًا:" يدل هذا المفهوم على السبل التي تسد فيها المسالك أمام أعداد كبيرة من الأفراد للانخراط الكامل في الحياة الاجتماعية الواسعة".
وحسب رأيه أنه يمكن النظر إلى كل من الإقصاء والاندماج على ثلاثة أسس وهي اقتصادية وسياسية واجتماعية.
1- الإقصاء الاقتصادي: يفصل فيه الأفراد والجماعات عن البنية الاقتصادية العامة للمجتمع من ناحيتي الانتاج والاستهلاك. ومن حيث الإنتاج تلعب العمالة والمشاركة في سوق العمل دورًا مركزيًا في ناحيتي الإنتاج والإستهلاك.
2- الإقصاء السياسي: يشير إلى حرمان المرء أو إبعاده عن المشاركة في الأنشطة السياسية في المجتمع. وتشيع هذه الظاهرة في المجتمعات غير الديموقراطية التي لا تتاح فيها للناس الفرص الكافية لفهم القضايا السياسية المطروحة في المجتمع وإبداء رأيهم..
3- الإقصاء الإجتماعي: ويحدث في نطاق الحياة الاجتماعية اليومية للأفراد والجماعات. فقد تحرم الكثير من الجماعات من فرص الوصول والمشاركة بكثير من المرافق الاجتماعية (...) كما أن هذه الفئات لا تتمتع بقدر كبير من الفرص للتسلية."[9]
ويرى الدكتور التونسي الحبيب العايب، أن هناك أربعة حدود فاصلة بين "المهمش" وغير "المهمش":
1- الحد الأول : حد فاصل جغرافي مكاني.
2- الحد الثانى : حد فاصل آخر يعرف معيارياً، إذا قرر المجتمع معايير معينة، فإن كل من لا يطبقها يوصمون- stigmatization بأن ممارساتهم غير عادية.
3- الحد الثالث : ويرتبط بالأصل، الأصل الفضائي أو القبلي أو الديني أو الإثني… والمثال الأكثر شهرة هو حالة "المنبوذين" في الهند، هذه الهامشية لا تتعلّق في حد ذاتها بالفقر أو الغنى، لكنها قد تكون منتجة لفقر جماعي.
4- الحد الفاصل الرابع : هو التّهميش على أساس إجتماعي اقتصادي. وهذا الحد مرتبط مباشرة بوصول أو عدم وصول الأفراد أو المجموعات إلى الموارد الاقتصادية، وهنا تظهر فئات العاطلين عن العمل، وكل من لا يصلون إلى الموارد (التعليم / الصحة /السكن، والأرض للفلاحين / ومياه الشرب .. إلخ)، وهذه هي الفئة الهامشية الوحيدة التي يمكن إخضاعها إلى مقولة الكم، وقياسها، مع هامش خطأ محدود نسبياً.
وهناك إشارة مهمة للدكتور الحبيب العايب عن التهميش حيث يقول بنفس الورقة:" أين يوجد الهامش؟ ويُجيب : يوجد خارج المركز، فمقابل الهامش هناك المركز، ففكرة الهامش بلا "مركز" لا معنى لها، أي أن المهمش لا يمكن أن يكون مهمشاً في حد ذاته، بل بالنسبة إلى حالة أو وضع مركزي." [10]
هذا بدوره يحيلنا إلى فهم الهامش ومعالجته من منظور صراعه الجدلي مع المركز. في كتابه " جدلية المركز والهامش"[11]، يتناول الدكتور أبكر آدم إسماعيل هذه الجدلية بحيث يقسم المجتمع إلى ثلاثة مستويات؛ المستوى الأول منه هو " المركز" متمثلًا بالحكام والوزراء والنبلاء والارستقراطية وما يرتبط بهم من زعامات رجال الدين. وهذا المركز في صراع مع القطب الآخر للجدلية وهو " الهامش" ويتكون من: العامة / الرعاع/ الجماهير/الشعب .. إلى آخره من المسميات. ويدور الصراع – جدلية المركز/الهامش- في الثقافة الواحدة حول التراتبية الاجتماعية ويتبع كل طرف من هذه الأطراف ميكانيزمات معينة في الصراع. وبين هذين القطبين تتوسط فئة ثالثة يطلق عليها الدكتور أبكر مسمى "هامش المركز" وتتكون من التكنوقراط والتجار وجمهرة رجال الدين أو حراس الأيدولوجيا. ويبين أن هذه الفئة تتأرجح مواقفها في الصراع حسب اتجاه سير الأحداث، وهو وضع غالبًا ما تحكمه المصلحة المباشرة.
السبيليات نموذجًا
انطلاقا من هذه الرؤية في تعريف الهامش وتبيين حدوده وموقعه الاجتماعي، ننتقل إلى تطبيقه على رواية " السبيليات " لاسماعيل فهد اسماعيل. تدور أحداث رواية السبيليات في العراق في فترة الحرب العراقية الإيرانية. تنطلق الرواية في فترة بداية الحرب مع أحداث ترحيل أهالي القرى الجنوبية وبالتحديد قرية السبيليات إلى المحافظات الأخرى. فتخرج أم قاسم وأسرتها إلى النجف حيث يتوفى زوجها في منتصف الطريق، وتمكث هناك سنتان إلى أن تقرر العودة وحدها مرة أخرى إلى قريتها السبيليات مصطحبة معها عظام زوجها. كل هذه المقدمة أتت بمثابة تمهيد للصراع الجدلي الذي سيبدأ فعليًا لحظة عودة أم قاسم ودخولها لقريتها السبيليات واحتكاكها بالجنود. أم قاسم التي تمثل الهامش في كل ما تحمله من هويات ( امرأة عجوز، جاهلة، قروية، ابنة فلاح إحسائي عاشت طفولتها في مزارع الإقطاعيين، في قرية السبيليات المقصية جغرافيًا) بمواجهة الجنود والقوات العسكرية التي تمثل هامش المركز.
وحيث أن الرواية تدور في زمن حرب وأحداث حرب، لذلك من الطبيعي أن بنية أي دولة ومجتمع تتبدل علاقاتها الداخلية بما يلائم ظروف الحرب. فموارد الاقتصاد وأدوات الانتاج تسخر تسخيرا شبه تام لخدمة الأغراض العسكرية. وتتبدل أيدولوجية الدولة وكل ما يندرج تحتها من عقائد وأفكار وفنون وآداب وإنتاج إعلامي إلى ما يخدم رؤيتها العسكرية. وحتى تصنيف الناس وتقييمهم يصبح وفق معيار موقفهم من الحرب ومدى فعاليتهم ومشاركتهم فيها. وهنا بطبيعة الحال تبقى الطبقات كما هي تقسيمتها الأساسية غير أن أدوارها وعلاقتها ببعض تتبدل بما يلائم ظروف الحرب. فيظل المركز هو المركز لكن تنحصر سلطته أكثر في السلطة العسكرية صانعة القرار في الحرب. وسيوظف من في هامش المركز كالتجار ورجال الدين أدواتهم في خدمة أيدولوجيا المركز ما دامت تصب في مصلحتهم، والأهم منهم هم القوات العسكرية والجنود الذين يشاركون فعليًا في تحديد مسار الحرب والقتال لتحقيق النصر للسلطة/المركز التي يتبعونها. أما في الهامش كالعادة يتموقع عامة الشعب الذين لا ناقة لهم في هذا الصراع ولا جمل، وغالبًا ما يكونون هم الضحايا الأكبر لهذا الصراع. وهناك مسألة قد يعترض عليها البعض فيما يتعلق بكون الجنود يمثلون هامش المركز، أي الشريحة الوسطى بين المركز والهامش. وذلك لأنه من الدارج أن يتم تمثيل الجنود غالبًا كفئة مهمشة في الأعمال الأدبية. في الحقيقة أنه لا يوجد قانون قار ثابت يمكن تعميمه على مثل هذه الحالات ونطبقه كقاعدة عامة موضوعية، فالقيمة الدلالية لأي تمثيل رمزي محكومة بالبنية السياقية التي يقدمها النص من جانب وللنظرية المعرفية التي يستند عليها القارئ/المؤول من جانب آخر. ونحن في هذه القراءة إذ انطلقنا من الرؤية التي يقدمها الدكتور أبكر اسماعيل ادم والمبنية على العلاقة الجدلية بين الهامش والمركز. سنرى أن الجنود يمثلون هامش المركز في ميلهم الأيديولوجي لصفوف السلطة بغض النظر عن قناعاتهم الداخلية. غير أن هذا الميل متذبذب وقابل للانحراف للطرف الآخر بحكم موقعه الوسطي بين الاثنين. وهذه الرؤية تجد ما يدعمها نصيًا كما سنستعرض بعد قليل.
حين يتكلم التاريخ عن حرب ما، دائمًا ما نرى في صدارة الذكر تلك الأسماء التي مثلت السلطة/المركز في الحروب ( الاسكندر، هتلر، موسوليني، تشرشل، بوش، الخميني، صدام، طارق بن زياد ... وغيرهم) بينما يذكر بشكل ثانوي عدد القوات والجنود ودورهم في تحقيق النصر. أما المدنيون والعوام فهم في الأغلب العدد الذي يتم حصره كنتيجة لانتصار طرف على آخر.
في رواية السبيليات، يقلب اسماعيل هذه العلاقة فيجعل ما في الهامش يتصدر الحدث سرديًا، وما في المركز يغيب إلى ما دون الهامش، بينما تحافظ الفئة الوسطية على موقعها بين الاثنين.
يتمثل الصراع الجوهري في رواية السبيليات بين أم قاسم والجنود في جدلية صناعة الحياة وصناعة الموت، الموت الدي يصنعه أصحاب المركز بمقابل الحياة التي يعيد خلقها المهمشون.
تقترب أم قاسم للسبيليات مع عظام زوجها التي تحملها دون دفن في إشارة إلى رفضها الإقرار التام لسلطة الموت. فكرة الزوج هذه التي رفضت بدورها الخضوع للموت وظلت تحضر في صورة حلمية توجه أم قاسم وتقودها في صراعها ضد الحرب وكل الموت الذي صنعته. وتبدأ هذا الصراع في خطوة أولى متمثلة في (الملاحظة) حين " لاحظت يباس الترع والجداول، تقول: لا يجف الماء دون فعل فاعل، الحرب بحد ذاتها لا توقف جريان شط العرب"ص ٣٧. تتقدم أكثر فيزيد استغرابها وتبدأ بطرح التساؤلات ومحاولة البحث عن الإجابة " تدري أنها الحرب، ولا تجد سببًا يدعوهم لقتل الأخضر بتجفيف الأنهار" ص٣٩.وكلما توغلت أكثر ترى غياب الماء وما يقابله من غياب الحياة رمزيًا وواقعيًا فتتراكم لديها الملاحظات مما يؤكد مخاوفها. لحظة وصولها إلى السبيليات، وبينما تقف على أعتابها تنتقل للخطوة الثانية؛ (اتخاذ القرار). يبدأ القرار المصيري يختلج في نفسها كما تعبر الرواية: "لو كان الأمر مرهونًا بها أجرت مياه شط العرب بأنهاره المتفرعة منه" ص٤٣. تدخل السبيليات، وتحاول محاولة أخيرة "ترهف إذنيها عساها تسمع نأمة دالة على وجود حياة ما "لكن حين تفشل تجد نفسها أمام الحقيقة المرة "هيمنة السكون يعني الموات، انبعث استنتاجها من داخلها"ص٤٦.هنا تقرر المكوث في السبيليات أطول مدة ممكنة، ظاهريًا للبقاء مع عظام زوجها، وهي الحجة التي اختلقتها كذبة لتسويقها عاطفيًا على الجنود. أما الدافع الحقيقي للمكوث هو مقاومة فعل الموت وإعادة الحياة بكل ما تعينها طاقتها على تحقيقه. بعد ذلك تصل إلى الخطوة الثالثة؛ (الفعل). تتبدى مقاومة أم قاسم للموت في أفعالها الأولية من خلال ممارسة غريزية بدائية متمثلة في البحث عن الماء. الماء الذي يحضر في الرواية بكل محموله الثقافي المرتبط بالحياة " الحياة بمظاهرها كافة تحتاج عنصرها الأساسي .. الماء" ص٧٧.وحيت انكشف لها كل شيء واضحًا، لما تتباطئ أم قاسم في الشروع بأداء مهمتها، فبدأت دخول البيوت وفتح الصنابير الداخلية، وحملت فأسها وحفرت مجاريًا للمياه لري الأشجار والنباتات. ويستمر هذا الفعل بالنمو إلى أن يصل ذروته لما أدركت أن ما تقوم به ليس كافيًا في مواجهة كل هذا الخراب الذي صنعته الحرب، ولا بد لها أن تحرر الماء من منبعه الأساسي. فتصدت للقيام بهذه المهمة مدعومة بمساندة زوجها الذي يحضر لها في أحلامها بما يشبه القوة الغيبية، وفي لحظة تكاتف السماء معها وهطول الأمطار توجهت للسد وحطمت جزءًا منه وأعادت المياه إلى مجاري الأنهار.
المقاومة
بالطبع هذا الفعل لا يمر دون أن تتصدى له مقاومة مضادة من الجنود بما تمليه عليهم تبعيتهم للسلطة/المركز وبدأت هذه المقاومة لحظة إلقاء القبض عليها لأول مرة ص٥٣، وتتابعت ما بين تهديدات وتوبيخات وقرارات بإبعادها. لم تستسلم أم قاسم، وقاومت بدورها من خلال التمسكن والتظاهر بالسذاجة مستغلة الصورة النمطية التي شكلها المجتمع عنها واستمرت في حركة شد وجذب ومراوغات مع الجنود.
في مرحلة أخرى تطور أم قاسم مهامها في إعادة الحياة ما بين زراعة الورود في المنازل أو ترميم الحيطان المنهدة من أثر الصواريخ مدفوعة بسؤالها الوجودي: " ما الذي يمكن أن نفعله لكي نمنع الموت أو ندفعه قليلًا؟" ص ٨٩.وذلكرغم محاولات الجنود لثنيها وتثبيطها مثلما سألها أحدهم قائلًا: " ما جدوى الترميم مع تواصل القصف؟"ص١١٦. إلا أنها تجاهلت السؤال رغم منطقيته محمولة بوازع أخلاقي مفاده " ما دام لا وجود لأي من أهالي السبيليات عداها، يلزمها أن تتصدى للمسؤولية.." ص٧٦
إن السلطة التي تمثل المركز والحضور التام في الحياة الواقعية تغيب غيابًا شبه تام عن التمثيل السردي ولا يتم ذكرها أو الإشارة إليها إلا من خلال ضمير الغائب "هم" بينما تحضر أم قاسم إلى الرواية بكل ما تحمله من هويات مهمشة وتستحوذ على المشهد السردي، وتخوض صراعها مع الفئة الوسط/هامش المركز أي الجنود. هذا الصراع، ورغم نضال أم قاسم وكل الحيل التي استخدمتها لمماطلة الجنود للبقاء في السبيليات، ينحرف متجهًا لهزيمتها. ففي اللحظة التي ظهر فيها أنها انتصرت علي الحرب، كشرت الحرب عن أنيابها الحقيقية إذ بدأ القصف وبدأت القذائف الإيرانية تنهمر على السبيليات. لكن ام قاسم لم تستسلم وبقيت حتى لحظاتها الأخيرة قبل حلول موعد إبعادها وهي تستمر في إعادة الحياة، ترمم المنازل، تزرع الورود وتستمر في استدرار المياه.
تتلاشى عقدة الرواية من خلال ذوبان الصراع بين طرفيه؛ الهامش وهامش المركز، ويبدأ التقارب بينهما بداية في عملية جدل حوارية بين الطرفين حيث نرى أم قاسم تلعب تمارس فعلًا شبيهًا بفعل سقراط من خلال طرح تساؤلاتها على الجنود الذين في البداية كانوا يتمنعون عن الإجابة " قاطعها، الحرب هي الحرب ولا أحد يفكر بمثل هذا المنطق"ص ٥٨" الحرب حسابات قيادات، وما على أمثالنا العسكر سوى الطاعة العمياء" ص ٦٢" تساؤلاتك مشروعة لكننا نخضع لنظامنا المقرر من جانب قيادتنا" ص٧٥. لكن مع إصرارها وعزيمتها ومع تعاطف الجنود معها أخذت المسافة تقصر وأخذت الحوارات تثمر نتائجها. غير أن هذا الحوارات لم تكن كافية لتغيير قناعات العسكر تمامًا واستمالتهم إلى طرفها، إلا عندما تم تدعيمها بضرورة اقتصادية حين انقطع إمداد السلطة عن الجنود بسبب القصف، فلم يجدوا بدًا من اللجوء إلى أم قاسم لتوفير المؤونة اللازمة لهم. وهنا حين تنتقل مصلحة الفئة الوسطى/هامش المركز تنزاح توجهاتها إلى الطرف الآخر. وفي ختام الرواية انقلبت مواقع السلطة وصارت بيد أم قاسم التي انقاد الجنود لها ولأوامرها في تعمير الأرض وإعادة بناء القرية فمدوا الأنابيب لضخ المياه في الأنهار وأعادوا زراعة المحاصيل وترميم المنازل. وفي النهاية انتصرت الحياة على الموت على يد المهمشين.
ولكن ماذا بعد؟ تبدلت مراكز السلطة الاجتماعية من خلال البناء السردي للرواية.. ثم ماذا؟
إن مشكلة التهميش لا ينحصر أثرها في الظرف الاجتماعي المعاش آنيًا وفيما يترتب عليه من إقصاء سياسي واقتصادي وحسب – وإن كان هذا هو الأثر الأكبر والأخطر للتهميش -. إلا أن للتهميش تجلٍ آخر وهو التهميش التاريخي. تعاني الفئات المهمشة من الطمس التاريخي لدورها وتأثيرها في بناء المجتمعات والأمم والحضارات، وما يتم تدوينه وتثبيته وتداوله تاريخيًا هو الرواية الرسمية للسلطة والتي بالطبع ستركز الأضواء على نفسها وعلى الفئات المقربة منها. وهنا يأتي دور الأدب ليؤدي وظيفته الإنسانية – كما يرى إسماعيل – وهي أن يخوض في هذه العوالم المنسية والمسحوقة والمضطهدة لإعادة موقعتها في التاريخ ولتأصيلها في التراث البشري. قدم لنا التاريخ الرسمي للحرب العالمية الأولى معظم الحقائق والأحداث العسكرية، عدد القتلى، نوع الأسلحة والآليات، الخطط والاستراتيجيات .. إلخ. لكننا لولا رواية " أرى الشمس" للكاتب الجورجي نودار دومبادزه ما استطعنا أن نفهم كيف عاشت القرى الأوربية بعد أن رحل عنها كل الرجال ولم يتبق غير النساء والأطفال والعجائز. ولولا أنطون تشيخوف لما عرفنا معاناة الطبقات الرثة من عمال وخدم في أوروبا. والتاريخ الرسمي لا يدرسنا عن حياة البحارة في الشام مثلما حدثنا عنهم حنا مينا. وما كانت القنوات السياسية ستسمعنا صرخة "يا مريم" في العراق لو لم يصدح بها أدب سنان أنطون. لا أريد أن يفهم من كلامي أن للأدب وظيفة تأريخية بحتة أو أنه يوثق ما يشبه التاريخ الظل بمقابل التاريخ الرسمي. إنما الأدب هو بمثابة المجرفة التي تزيح الرماد من فوق كل التراكمات الإنسانية التي شاء لها الطغاة أن تنطمس. الأدب هو شهادة للتاريخ، ذاكرة للإنسانية.. وشاء إسماعيل فهد إسماعيل أن يسجل نفسه كواحد من أرقى من طرزوا هذه الذاكرة.
حسين المطوع
27/2/2018
[1] إسماعيل فهد إسماعيل، السبيليات، دار نوفا بلس، الكويت، ط ٢
[2]حوار مع الكاتب في مركز جابر الأحمد الثقافي ضمن فعاليات (حديث الإثنين) ١٩/٢/٢٠١٨. وهو موثق في موقع يوتيوب: https://www.youtube.com/watch?v=O3HSjDvoLvE
[3]جمال دين ابن منظور،لسان العرب، دار الكتب العلمية، بيروت، ج٦، صفحة ٤٣٨
[4]أبي نصر الجوهري، الصحاح تاج اللغة ولسان العربية، دار الكتب العلمية، بيروت، ج ٣، ص ٢٢٦
[5]محمد حسن جبل،الاستدراك على المعاجم العربية، دار الفكر العربي، القاهرة، ص ٤٥
[6]مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الشروق، القاهرة، ط ٤، ص ٩٩٤
[7]جبران مسعود، معجم الرائد، دار العلم للملايين، بيروت، ط٧، ص ٨٣٠
[8]مجموعة مؤلفين،التأريخ العربي وتاريخ العرب كيف كتب وكيف يكتب؟ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، ص ٩٣٧
[9]انتوني غدنز، علم الاجتماع، ترجمة فايز الصباغ، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ص ٣٩٤، ط ٤
[10]مفهوم الهامشية ومعايير التهميش، حوار مع الباحث التونسي الحبيب العايب،https://www.alawan.org/article7588/في ٥/٣/٢٠١٠
[11]أبكر آدم إسماعيل، جدلية المركز والهامش قراءة جديدة في دفاتر الصراع في السودان، منظمة حقوق الإنسان والتنمية، ط ٢
تعليقات
إرسال تعليق